كتابة: عبد الامير الخطيب
حين تلهمك الغواية، حين تجذبك الى خباياها ومجاهيلها، تدرك ان لا مناص من رائحة اللوز المتعفن وان ليس هناك من بدّ في ان تستسلم لها بكل ما تملك من ضعف بكل ما تمتلك من هوان وخذلان، لانها تحوّل الواقع الى سحر والمعبود الى مملوك، فتلمس الحب بين ثنايا عقلك وتمارس كل انواع التعبد الذاتي، تمشي في شارع مكتظ ملئ بالضجيج، لا تسمع سوى صوت ملهم، يضربك احدهم فتطلب العفو منه لا لانك هائم مع من تحب، تبحثوا سوية عن اي شئ يثير الاستفزاز لانه مبعث الحياة وضفر الموت.
نعم انه التوحّد بذات الملهم، الذوبان حد الاضمحلال بذات العشق، لانك تحترف الجنون تدرك تماما ان الاشياء لا تكتمل الا بالجنون وتعرف ان الاشياء تنتفض حين تمارس عليها لغة القصد، العقلنه البحث في المعنى من اجل المعنى، فلا شئ يسد الرمق الا الغواية، تلك الطرية ابدا الملهمة باستمرار والداعية الى الغوص في الاعماق السحيقة، الاشياء تتفسخ حين نغسلها بالضوء، فالضوء وعبر تاريخه يرينا الشكل، فهو غير قادر على سبر العمق، فالعمق النيّر كالماء صاف لا يعرف التملّق والنفاق، التوحد نور لا يراه الا من يؤمن بذات الاشياء، ان لكل شئ ذات ولكل ذات عالم خاص يقترب منك ويبتعد عنك حين تدركك الغواية، الغواية هي الصورة، هي المتخيل المعاش البعيد القريب الظلام النور، الغواية هي الشعر، الشعر هو الاحساس فقط.
وحين يدرك احدنا الاشياء، والاخرين بالاحساس يكن قادرا على ملئ الصفحات السود بنوره ان يحرق العتمة يحيلها يلقي بها في بأس المصير، حين يدرك احدنا الاخرين بالاحساس تتوقف الاصوات تصبح معتمة هي الاخرى، يتوقف الشهيق والزفير يتحولان الى قطعة محيوكة من الاواصر والاحلام، تكون عندها اللغة المحكية عار و يكون الصوت خزي، لكن حين يدرك احدنا هذا كله يقل للشئ كن فيكون، يكون باستطاعته تحريك كل الاشياء حيث يشاء هو، لا حيث يراد منه ان يشاء، بهذا تكن لغة الفن الغير محكية ابدا هي التي تذب، تقت، تحي العظام وهي رميم، تكن لغة الفن لغة الغضب لغة من تلحقة اللعنة الابدية لغة من يخاف من الحياة بحجم خوفه من الموت، لغة تتسامى كالمعادن التي تتبخر مرة واحدة، فتلك اللغة لا تحتاج ان تتحول الى سائل بل ربما تكره ذلك التحول المقيت.
هكذا يعيش (حيدر ديوه چي) يومه هكذا يعيش ساعته بل لحظته، فهو كالصوفي الذي طلق الحياة، غير قادر على التعاطي مع مفردات الحياة السائلة الملساء باستمرار التي تتحول الى كل شئ والى لا شئ في ذات الوقت، بقدرة الحاجة الى الاخر بقدرة شكلها الجوع والعطش والجنس وما بينهم، حيدر يحل اشيائه الى كائنات يجتمع معها يتخاصم معها ويقتنص منها ما يريد بكل رحمة، يمارس عليها و معها الرحمة باستمرار لان روحة هي التي تدرك الاشياء، حيدرديوه چي لا يتلمس الاشياء والاخرين انه يحسها يكوّن لغة معا لغة غير ذات اصوات، لغة تمليها عليه الغواية فيتوحد بذات الشئ او الاخر فيخرج من قمقمة الف مارد، لغة يضع فيها اشيائه وخرينه على ذات البساط السحري الذي حلم به حين كان يسمع صوت امه وهي تقص عليه كل مساء، فقد يرسل البساط صوب حرية المرأة او اي صوب يحلم ان يوجهه، حيدر لا يعرف طريقا اخر في انتاجه الفني غير الغواية او قل كما يحلو لك من كلمات كالوهم مثلا.
نعم فهو من يصنع وهمه باتقان يحصّنه بكل ما اوتي من خيال وفنطازيا، فيرى الاشياء والاخرين لا كما نراها نحن، ولانه يرى الاشياء بعين الغواية يستطيع ان يقول ما نريد ان نقوله نحن وفي ذات الوقت يتعذر علينا قوله وكأننا كمن يقول «الله انا من اراد ان يقول ويصنع هذا» هكذا يخلق حيدر لنا صورة، هكذا يعالج حياته الشخصية فليس من المهم ان يقنعنا او ان يقنع نفسه بأن هذه الاشياء ليس ذات اهمية لها، انه يريد باستمرار اقناع غوايته اللقاء بالملهم او بحالة الالهام نفسها.
نراه يضع امرأة محجبة بجانب تمثال عاري، او هكذا يخيل للرائي انه يسير بعكس الاتجاه لكنه لا يقصد ذلك ابدا، فهو فنان بالفطرة يخلق موضوعه من الذي يراه فلم يحدث ان شكل بشكل قصدي اشخاصه واماكنه وادواته وخلق لنا موضوعا، فالشخض الذي ينام عند البوابة التي كتب عليها ممنوع الدخول هو موضوع بحد ذاته وليس هناك من حاجة الى ان يخلق لنا الموضوع كما اسلفت، وهكذا يلتقط موضوعاته من الشارع فبحسه المرهف وحساسيته العالية يستطيع حيدر ان يلتقط عشرات المواضيع يوميا، هنا فقط احببت ان انوه الى بعض من الاعمال التي قد يتخيل الى القارئ انه فنان بسيط اقتضى هذا التنويه قبل ان اتناول اعماله الفنية الاخرى، لان الكثير من الاصدقاء والمعجبين باعمال حيدرديوه چي يرون ان في اعمال حيدر معاني ورموز غارقة في انسانيتها.
انا لا اسلب اعمال حيدر من انسانيتها ابدا بل اقول انه قادر على الخلق الاكبر والاجمل واسيق هنا بعض من اعماله التي ارى انها تؤهله ان يكون مخرج سينمائي كبير ومن طراز متفرد في صوفيته، يجمع بين التوحد في ذات الشئ وبين ما يحتاج اليه الفنان، اعني الفنطازيا او المخيلة الجامحة، افضل جمع فيصور مثلا حذاء امرأة يبدو بسيطا وغير ذا اهمية، قد يتبادر الى الرائي انه عمل تجارى يريد الفنان منه الحصول على تسويق اوسع وهذا عكس ما ارى لان وضعه للون الاصفر او تركيز الفنان على لون الحذاء الاصفر له دلالات فنية اخرى غير التي تمر على ذهن المتلقي لاول مرة، او حتى عمله الذي صوره في احتفال (نوتنك هل) تبدوا الوان ملابس المحتفلين زاهية هؤلاء الناس من السود نساء واطفال ورجال من فئات عمرية مختلفة، جمع هذه الفئات بشكل ذكي واعطانا الوانا متفردة تدل على اشياء يريد هو ان يقولها، وعمله الاخر الذي لا اعرف اسمه لشخص يحاول ازاحة ستارة عن ضوء حارق، هذا العمل يتعاطى الاوان مرة اخرى وهذه الالوان تدل على اشياء ربما لا يفصح عنها الفنان بشكل بسيط بل يضعها من باب وضع الاسئلة لانه يدرك بالفطرة ان وظيفة الفن هي ليست الاجابة على الاسئلة بل اثارتها.
حيدر ليس متطرفا وليس عفويا بسذاجة، أنه ببساطة يعرف ما يريد ان يفعل لانه كما قلت في المقدمة رجل صوفي يتصومع بذاته يدخل شرنقته التي صنعها من خيالاته و اوهامه و فنطازيته المقدسة، فحين يركز على الالوان في عمل ما انما يريد ان يقول رسالة ما، وحين يرى تلك الالوان ببهجة او برومانسية او بخيبة فانه يريد ان يقول رسالة ما ايضا، وهكذا حين يقدم العمل الفوتوغرافي باللونين الابيض والاسود فهو يمارس ذات اللغة المتصوفة المتأكدة من التوحد مع الخلق، فهو يمارس الخلق لانه يعرف كنه الاشياء يعرف ان ليس في الحب الا الصورة والصورة ابلغ وأحدّ من الكلام او كل الاصوات، هو لا يمارس الاداراك القسري بل يدرك اشيائه بعفوية الخالق القادر على ان يقول للشئ كن فيكون.